حياة عميد المنبر الحسيني
الحلقة الثالثة / عصر الشيخ الوائلي
إعداد وتحقيق: وائل علي الطائي #مؤسسة_الشيخ_الوائلي
أحد مشاريع توثيق الإرث الفكري لعميد المنبر الحسيني
من العوامل المؤثرة في صياغة شخصية الوائلي، هو عامل المجتمع الذي عاصره فالوائلي ابن النجف الاشرف، نشأ في محيطه تربية وتعليما، والنجف من اعرق البيئات الثقافية الاسلامية قدماً،
يقول الدكتور على جواد الطاهر:
والنجف مدينة العلم الديني المنقطع النظير، ثم الأدب والشعر، وهي فيهما نادرة من النوادر واعجوبة من الاعاجيب، يعني اهلها بقول الشاعر وسماعه والحديث عنه عنايتهم بالمسائل اليومية من اكل وشرب، انهم ادباء كما يتنفس المرء الهواء.. ولا تسل بعد ذلك – عن الكتب والمكتبات، والاسر العريقة في العلم والادب والشعر ومجالسها الخاصة والعامة، وما يتلى من شعر في الافراح والاحزان، وفي مأتم الحسين بن علي وما يتفاخر به الشعراء ويسمر به الناس..
إن الشعر في النجف حياة، وهو لدى ابنائها ولا اسهل منه او ايسر، او انه فيها كالماء والهواء استسهالا واستعظاما، جدا وهزلاً، وهو مجد كما هو مرتزق، وعلامة فارقة لا تكاد تضاهيها فيه بلدة اخرى في العالم العربي..
ومن خواص النجف التي تذكر بالاكبار انها سايرت التطورات الدينية الادبية في العالم العربي، بصدر رحب وافق واسع فهي مع محافظتها على اصالة الفكر الاسلامي لم تتزمت فترفض المعاصرة، وانما اخذت من وسائلها واسبابها ما رأته الضرورة النافع حتى “ان الكتب الحديثة ما تكاد تدخل العراق حتى تتجه رأساً الى النجف فتتلقفها الايدي هي وكتابات اكثر حداثة كشعر شوقي وحافظ وايليا ابي ماضي، وفيهما ما يناقض الفكر النجفي المناقضة كلها، وهو رد فعل يتبناه الذين ضاقوا بالقديم وبلغ بهم الضيق الطرف الاقصى من رد فعل مطبوعات الاستانة، والهلال، والمقتطف، وشيلي شميل والريحاني.. ومجلات وجرائد مما يعد حراما وكفرا والحاداً..
على كل حال نشأ الوائلي في هذا العصر الذي يعتبر قمة في نضج وسعة المدرسة العلمية النجفية في مختلف ابعاد المعرفة، وكان من عناية الله تعالى بالحوزة ان تتابع جيل من المراجع المحققين والعلماء الكفوئين لقيادة الحوزة، وقد ضمت هذه الفترة على تعاقب واجتماع:
الميرزا حسين النائيني، والسيد ابو الحسن الاصفهاني، والسيد محسن الحكيم، والشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، والسيد ابو القاسم الخوئي، والشيخ محمد حسن المظفر، والسيد عبد الهادي الشيرازي، والسيد حسين الحمامي، والسيد محمد تقي آل بحر العلوم، والشيخ محمد رضا آل ياسين، واضرابهم من فحول العلماء الاعلام، وهؤلاء مجرد نموذج لا على نحو الاستيعاب، وتليهم طبقة اخرى صمّت مجموعة ، منهم:
الشيخ مرتضى آل ياسين، والشيخ محمد رضا المظفر، والسيد موسى آل بحر العلوم، والسيد محمد باقر الصدر، والسيد محمد تقي الحكيم، والشيخ محمد طاهر ال الشيخ راضي، والسيد مرزا حسن البجنوردي، وامثالهم، وهذه المجموعة هي الاهرى مجرد نموذج من عدد كبير.
وحفل عصره ايضا بعده من الخطباء المبرزين، منهم الشيخ محمد علي اليعقوبي، والشيخ محمد علي قسام، والسيد صالح الحلي، تليهم طبقة اخرى نسجت على منوال السابقين ممن ذكرناهم من الادباء والشعراء فيشكلون كما كبيرا لهم طابعهم النجفي الخاص، وادبهم الناضج والرائد، ابتداءاً من شيخ الأدب الشيخ محمد جواد الشبيبي، والشيخ محمد رضا الشبيبي، والشيخ علي الشرقي، والشيخ محمد مهدي الجواهري، والسيد محمد سعيد الحبوبي، والشيخ صالح الجعفري، والدكتور عبد الرزاق محي الدين، وكثير غيرهم ممن صقلت بهم ابعاد النجف الحضارية، ومن الجدير بالذكر ان معظم اهل العلم شعراء ولكنهم لايرغبون بذكر ذلك عنهم لرغبتهم في الاحتفاظ بالنهج العلمي والاشتهار بذلك، اما المحققون في الابعاد الفكرية الاخرى فيوجد اعداد كبيرة، ورد ذكرهم في كثير من الموسوعات والمراجع المتخصصة، ومن اراد الاستزادة الرجوع اليها لأن النجف وبالاختصار كل ازقتها معهد علمي، وكل ناد من انديتها ومجلس من مجالسها هو عبارة عن مؤسسة ثقافية تحفل بعطاء علمي ناضج.
ومثل هذا الجو لابد ان يفعل فعله في شخصية الوائلي، فقيها كان او شاعراً او خطيباً، ويعمل على صقله وتهذيبه، وبالتالي تكوينه بالشكل اللائق، ولاشك ان للاستعداد الفطري لديه اثر في توجهه وحرصه على الانتهال من هذا الغدير الذي يحمل سمات المعلم الثاني بالوجود الامام امير المؤمنين عليه السلام، ومن قدس روحانية مرقده السامي الرابض كالابد على الذكوات البيضاء من الغري الاغر، ومن فيض نفحاته وبركاته ان عايش الوائلي واقرانه هذه الاجواء الرائعة التي قد لايجود الدهر بمثلها، وعاصروها وتفاعلوا معها فكراً وعقلا وروحاً، واستطاعوا ان يعطوا، ويؤثروا في الاوساط العلمية والاجتماعية، وللنجف في شخصية الوائلي اثر بليغ محفور في ذاكرته، ورنين يومي ابدي الحضور في شعوره وتصوراته، يملي على ذاته تمثلها في حركاته وسكناته، ولم تزده الغربة إلا تعلقا وتولها وهياما وشوقا مضرم اللهب، جياش العواطف، لن يهدأ ولا يستكين:
صور اقمت بمقلتي اقامة المعمود في ريع الحبيب النائي
يزددن حسناً كلما بعد المدى ويلفهن البعد في لالاء
وتراب اوطاني ربيع اخضر ولو انها في بلقع جرداء
صافحته بالخد عند ولادتي ورسمت منه بجبهتي طغوائي
***
(وادي الغري) وحق وملك وهو ما … اشتاقه في غدوتي ومسائي
لو تستبين على البعاد مشاعري … ملهوبة كالجمر في الظلماء
وصبابتي وانا القصي عن الحمى … وبمقلتي تلفت الغرباء
لحزنت لي ولحن وملك مثلما … ضج الحنين بادمعي ودمائي
فانا ابنك البر الوفي وفطرة …
عطف الأب الحاتي على الابناء
اترى وطيفك يستبد بمقلتي … انساك لا ورمالك السمراء
فانا لهيب مشاعر وصبابة …
تواقة لقبابك الشماء
والى محاريب العبادة والتقى … ولخشعة من راهب بكاء
اما مدارسك التي رقت بها…
للفكر الف خميلة غناء
انا من طيوف خميلها اشدو بما … في روضها من روعة وبهاء
ويبطن تربك في جذور اوغلت …
من اعظم الاجداد والاباء
ممن اراق دماً واسرج فكرة …
من أجل مجدك دونا ضوضاء
وبراعم لي في حشاك دفنتهم … كانوا النسيج البكر من احشائي
ورأيت فيهم للطفولة بسمة … ودفنت فيهم بهجتي وهنائي
فلديك اصل والفروع وانني …
انا لاحق بهما بدون مراء
والفتى، يجوب فعلا مرائع النعمان بن المنذر، ويستظل بغربائه، ويتفيأ شقائقه، ويفترش شيحه وقيصومه، في اجواء لم يغادرها الشعر قط، حية نابضة باصدار الاعشى الكبير، وعدي بن زيد العبادي:
وللدوالي بأرباض الدبر بها .. طيف من ابن عدي او شذى دعد
ودير هند وقد مرت كواعبه … تمشي الى الكرح في دلٍ وفي اود
حيث الشعانين تستهدى مواكبه … طريقها بنهود للسما نهد
وحيث يمزج ثرواتي خمرته … بالخمر حين ابتغى ماءاً ولم يجد
لكوفة الجند اطياف الكميت بها … وندة ثقة في المتن والسند
لسامر المتنبي العبقري لدى … ربوع كندة بالنقاد محتشد
لرملة النجف السمراء ضاحكة … ابعادها بالاصيل الحلو والرأد
ما دمنا في مجال دراسته يحسن بنا الاشارة الى منهجيتها – ولو بصورة عابرة – ذلك ان الوائلي لم يقتصر على الدراسات المذكورة بل واصل فيها التحصيل الذي يتطلبه موضوع الخطابة الحسينية، والذي يحتاج فيه الخطيب الى تحصيل موسوعي نظراً لحاجة المنبر لمجموعة كبيرة من المواد العلمية .
ومن المفيد هنا الاشارة ايضا الى ان كلا من الدراسة الحوزوية، ومناهج المنبر الحسيني في هذا العصر كانت تتسم في جو شديد من المنافسة تتميز به مدرسة النجف العلمية في اصالتها وعمقها، وما يلاقيه طالب العلم من صراع في سبيل تحقيق ذاته، وإثبات وجوده، ولا دور في مدرسة النجف إلا للموهوبين الذين يمن الله تعالى عليهم باستعداد خلقي بالاضافة الى جد في السعي والتحصيل، وحلقات تتبارى فيها الكفاءات من اساتذة لا معين يحرص كل منهم على انتاج مميز يساجل به الاخرين مما يعرفه من طلاب العلم في الأسر العلمية في النجف، وكذلك بجيل مميز من الخطباء حقق نقلة في المنبر الحسيني من مجرد كونه محركا عاطفيا يعتمد على اثارة الشجون والحزن لمأساة الطف، الى مرحلة حفلت بالسرد التاريخي وربط الحوادث بعظات وعبر وشيء من العقائد والاحكام توضع في اطار ادبي، ومنهج من مفرداته النصوص الادبية بقسميها الشعر والنثر وسير الصالحين والعظماء، وكانت المرحلة بالنسبة للوائلي حافزآ له على استثمارها وبناء الاسس عليها منطلقا الى ماهو اوسع واشمل، ومعتمداً في ذلك على امكاناته العلمية لتحقيق ذلك وفق قنوات منهجية وعلمية، ونجح الوائلي في ذلك نجاحاً عريضا، وسرعان ما امتد صيته الى الملايين من ابناء الطائفة في العالم العربي والمهجر وبالطبع فليس من السهل نجاح مثل هذا الاسلوب الذي عرف به الوائلي، لأن مستمعي المنبر يختلفون في وضعهم الثقافي، ويتنوعون من امى الى جامعي، فلست تملك قدراً جامعاً يرضي اذواق هؤلاء مالم تتنوع المعلومات، ويتم اختيار منهج لبق يوازن بين حاجات هؤلاء في انسجام وربط ذكي، وذلك ماوفق فيه الوائلي الى حدٍ كبير مع ما تميز به حضوره من جرأة ادبية عالية ولباقة نادرة وبديهة حادة، فطفق شعاع مجالسه الثرة يخطف ابصار المعجبين، واخذ سحر بيانه يستولي على الباب المؤمنين، وطار صيته في كل المرابع والنوادي واشتهر امره في الحواضر والبوادي وبذلك تسنم عرش امارة الخطابة الحسينية بحق وحقيقة، فهو اليوم امير المنبر الحسيني بلا منازع، ولا يجادل في ذلك إلا معاند او جاهل،
وذلك من الله لطف وتدبير بل هو فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده، فبورك للوائلي امارته في رحاب سيد الشهداء ابي عبد الله الحسين بن علي عليه السلام.
يتبع ..
أضواء على أبوة الشيخ الوائلي لعوائله